بغداد – إيجاز
لم يعد تأخر صرف رواتب المتقاعدين في العراق مجرد إجراء إداري عابر يمكن تجاوزه بسهولة، بل تحوّل إلى حالة شبه شهرية تتكرر مع كل دورة صرف، لتضع آلاف العائلات تحت ضغوط معيشية خانقة وتثير موجة قلق واسعة في الشارع.
وهذا التلكؤ الذي يُفترض أنه استثناء، بات يشبه القاعدة في ظل غياب آليات ثابتة تضمن انتظام الرواتب في موعد محدد، ما فتح الباب أمام تساؤلات لا تنتهي عن الأسباب الحقيقية وراء الأزمة.
وخلال الأسابيع الماضية، ومع انتهاء شهر آب/أغسطس، عاش المتقاعدون أياماً من الترقب والقلق، بعدما تأخر الإعلان عن إطلاق الرواتب إلى ما بعد الموعد المعتاد.
وسرعان ما امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بشكاوى المتقاعدين وأسرهم، وتحوّل الموضوع إلى مادة أساسية في وسائل الإعلام والبرامج التلفزيونية التي خصصت حلقات لرصد المعاناة اليومية لهذه الشريحة. ولم تُعلن وزارة المالية إطلاق التمويل إلا في وقت متأخر، ما ضاعف حالة التوتر العام.
وأوضحت الوزارة في بيانها الأخير أنها باشرت فعلاً بتمويل رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكريين، داعية المستفيدين إلى مراجعة المصارف أو منافذ الصرف الآلي لاستلام مستحقاتهم. غير أن هذه الطمأنة لم تُخفف من حجم القلق، خصوصاً أن الأزمة ليست الأولى من نوعها، بل تكررت قبل شهر تقريباً، حين أرجعت المالية أسباب التأخير إلى تزامن الصرف مع عطلة نهاية الأسبوع للبنوك الخارجية التي تمر عبرها التحويلات النفطية.
حينها، أكدت الوزارة أن الرواتب مؤمّنة بالكامل حتى نهاية السنة المالية، لكن التطمينات لم تمنع تكرار المشهد مرة أخرى.
إلى جانب ذلك، برز ملف “صندوق التقاعد” بوصفه محوراً إضافياً للجدل، فبعد صدور قرار حكومي بإلغاء نظامه السابق لسنة 2008 واستبداله بنظام داخلي جديد لهيئة التقاعد، تصاعدت التحذيرات من أن أموال الصندوق قد تُصبح رهينة لتخصيصات وزارة المالية ومرتبطة بشكل مباشر بعائدات النفط.
وهذه المخاوف عززت الشعور بعدم الاستقرار، في وقت يُفترض فيه أن يكون الصندوق مصدر أمان وغطاء مالي مستقل لجميع المتقاعدين.
وقال عضو اللجنة المالية النيابية معين الكاظمي في تصريح له، إن “تأخر صرف رواتب المتقاعدين خلال الأيام الماضية يعود إلى خلل فني جرت معالجته بالتنسيق بين وزارة المالية وهيئة التقاعد الوطنية”، مؤكداً أن الرواتب ستُصرف بشكل منتظم مطلع الأسبوع المقبل.
وأشار إلى أن “وزارة المالية اعتادت على إطلاق تمويل الرواتب اعتباراً من العشرين من كل شهر بشكل تدريجي، إلا أن بعض الإجراءات التقنية أخّرت العملية هذه المرة، سيما وأن هيئة التقاعد تسلّمت 500 مليار دينار من صندوق التقاعد، إضافة إلى تريليون دينار من وزارة المالية”.
وبينما تُصرّ الجهات الرسمية على أن الصندوق لم يُلغ فعلياً وما زال يتلقى التوقيفات التقاعدية المستقطعة من الموظفين، فإن الجدل لا يتوقف حول آليات عمله.
فالكثير من المتقاعدين يرون أن غياب الاستثمار الفعّال لأموالهم جعل الصندوق يعتمد بشكل شبه كامل على الموازنة العامة، بدل أن يكون رافداً مالياً مستقلاً كما هو معمول به في دول أخرى.
ويزداد الشعور بعدم العدالة مع التذكير بأن الموظفين الذين عُيّنوا قبل عام 2008 ما تزال رواتبهم تُصرف مباشرة من الموازنة الاتحادية، فيما يقتصر الصندوق على من عُيّن بعد ذلك العام.
وتبلغ أموال صندوق التقاعد بحسب بيانات رسمية أكثر من تسعة تريليونات دينار، أغلبها مودعة في البنوك الحكومية.
وعلى الرغم من تحويلها من حسابات جارية دون فائدة إلى ودائع بنكية ذات أرباح، فإن هذه الخطوة لم تُحدث تغييراً ملموساً، إذ يفتقر الصندوق إلى استثمارات حقيقية يمكن أن تدرّ أرباحاً كبيرة.
وكل ما هو موجود حالياً لا يتجاوز مساهمات محدودة في بعض المصارف وأسهم مرتبطة بالبنك المركزي، مع حديث رسمي عن نية تنويع الاستثمارات باتجاه قطاعات الإسكان والطاقة والنفط بضمانات حكومية.
وتبدو أزمة رواتب المتقاعدين انعكاساً مباشراً لاختلال المنظومة المالية والإدارية في البلاد، فالتأخير المستمر لا يُقاس فقط بالجانب المالي، بل بما يخلّفه من أعباء اجتماعية ونفسية على شريحة أنهت سنوات عمرها في خدمة مؤسسات الدولة، وباتت تعتمد بشكل كامل على هذه الرواتب كمصدر للعيش.
وبينما تحاول الحكومة تبرير التلكؤ بأسباب فنية أو تقنية، فإن المشكلة تكشف عن حاجة ملحة لإصلاح جذري في إدارة الصندوق وتوسيع مصادر تمويله واستثمار أمواله بطريقة فعالة، بما يعيد إليه دوره الطبيعي كضمانة مالية مستقلة ويمنع تكرار الأزمات مستقبلاً.