آخر الأخبار

الأبناء ليسوا حصالات نقود!!

بقلم/ ندى سلطان

كثيراً ما أسمع عن آباء وأمهات يطالبون أبناءهم برد الجميل بعد أن ولدوهم وكبروهم.. أو لنقل أحسنوا رعايتهم وتربيتهم حتى بلغوا أشدهم ، بل أنني على إطلاع في محيطي على مشاكل لأبناء مع أمهات يستدرونهم عاطفياً ويُشعرونهم بالذنب مقابل تربيتهم ويختصرون هذا الرد في دفع الإيجار أو المصروف الشهري أو ثمن العلاج وهناك من قامت بمقاضاة ابنها لأنه لا يدفع لها الإيجار رغم أنه عاطل عن العمل وقامت بطرده من البيت! … وقد يلجأ بعضهم إلى العتاب القاسي إذا لم يستجب الأبناء لذلك وكأن الأبوة والأمومة أصبحت معاملة تجارية لا رابطة إنسانية.

في الواقع وإذا ما نظرنا إلى الأمر بعقلانية نجد أن الأبناء لم يختاروا قدومهم إلى هذه الحياة.. ولم يُستند إلى رغبتهم في خوض هذا المعترك وإنما وجدوا أنفسهم فيها بقرار الوالدين اللذان قررا تكوين عائلة غالباً ما يكون الهدف فيها الحاجة الفطرية للعلاقة الجسدية بعيداً عن الطرق المشبوهة، أو امتثالاً لرغبة العائلة الكبيرة بتناقل أسطورة الأجداد إلى الأحفاد ، والنادر جداً أن يكون الهدف من الزواج بناء أسرة متماسكة وقوية وهذا في الغالب نجده في العوائل التي تعتمد التربية الصحيحة نهجاً للتكاثر الإنساني لا كماكنة تفريخ فقط.. إن مسؤولية التربية والرعاية واجب طبيعي لا يحتاج إلى مقابل… فالأبوة والبنوة ليست ديناً يجب على الأولاد سداده عند الكبر ، ولا استثماراً مالياً ينتظر عائداً معيناً لكنها علاقة مبنية على محبة ورعاية غير مشروطة.

وإذا ما نظرنا إلى المساعدة المادية نجدها أمراً طبيعياً بل وضرورياً أحياناً، لكن قيمتها الحقيقية تكمن في أن تأتي عن طيب خاطر لا عن ضغط أو لوم أو استدرار عاطفي مقيت لا ينم عن سلوك سوي أو رحمة .. فالأبناء حين يشعرون بالمحبة والاحترام ؛ يقدمون العطاء من تلقاء أنفسهم، بينما يُنتج الضغط النفسي جفاءاً وعلاقة مشوهة يصعب معالجتها على المدى البعيد.

ولكوني أعيش في مجتمع مليء بالتشوهات والضغوط ، فأنا على تماس مباشر مع مئات القصص والحالات التي يعيشها الأبناء مثل أن يُدفع الشاب قسراً للعمل وهو مازال طالباً بالأخص إن كان غير راغب بالعمل تحت مبرر ( قمنا برعايتك حتى هذه المرحلة والآن جاء دورك لإعالة أسرتك) أو أن تُطالَب الفتاة المتعينة حديثاً بدفع مبلغ شهري للعائلة لأن العائلة دعمتها طيلة فترة دراستها ، والأدهى أن يتم منعها من الزواج من قبل الأب والأم (كي لا يستفيد الزوج من راتبها الشهري)!! ورغم قلة وجود حالات كهذه لكن ما الذي يمنع انتشارها مستقبلاً ؟ بل وتتمادى بعض العوائل في ربط هذا الأمر بشرط ديني لتبرئة ذمتها مستشهدةً بحديث (أنت ومالك لأبيك) للرسول (صلى الله عليه وسلم) .. ولا أعرف كيف يتم تفسير هذا الحديث من حالة لأخرى ومن بيت لآخر لكنني لا أظن أن رجلاً بحكمة محمد (صلى الله عليه وسلم) يضع طوق الضغوطات حول رقبة الأبناء برد الرعاية الأبوية على شكل منفعة مادية وهو الذي أُرسِل (رحمةً للعالمين) !

تتجلى هذه الظاهرة في العديد من البيوت العراقية وهي ظاهرة مقلقة للأسف، حيث يختزل بعض الآباء والأمهات مفهوم (رد الجميل) إلى مطالب مالية مباشرة، مع لوم متكرر في حال لم يتم الامتثال.

إنَّ هذا السلوك يعكس تحولا في طبيعة العلاقة الأبوية من رابطة إنسانية قائمة على الرعاية إلى علاقة نفعية تحكمها المعادلة الاقتصادية… أما من الناحية الاجتماعية.. فالتربية لا تُعد صفقة تجارية بقدر ما هي التزام أخلاقي تجاه حياة قرر الوالدان إنجابها وهما المسؤولان عنها وليس العكس.. أما من الناحية النفسية فإن ربط قيمة الأبناء بقدرتهم على الدفع المالي قد يُضعف إحساسهم بالانتماء للعائلة ، ويزرع بداخلهم شعوراً بالذنب والضغط المستمر أنهم مطالبون بتأدية خدمة مالية لم يكونوا الطرف المناسب فيها.. وأسوأ ما في الأمر أن هذه المشاعر لا تساهم في تعزيز الوفاء بل قد تفضي إلى فتور العلاقات أو حتى القطيعة!!! لست بصدد إنكار حاجة بعض الآباء إلى دعم أبنائهم، خصوصاً في ظل الأزمات المعيشية والشيخوخة… لكن الفارق كبير بين المساعدة التي تأتي بدافع الحب والاعتراف بالفضل، وبين المساعدة المفروضة تحت شعار (دين التربية) فالحالة الأولى تعمق الروابط وتقويها بينما الثانية تحول الأبناء إلى (أدوات تمويل)!

إن تجاوز هذه الظاهرة يتطلب إعادة الاعتبار إلى مفهوم الأبوة والأمومة كرسالة قائمة على الحب غير المشروط، مع بناء وعي اجتماعي يشجع على التكافل الأسري الطوعي لا القسري… فالأبناء حين يُربَّون على أساس المودة والاحترام يقدّمون لأهلهم أضعاف ما أنفقوا عليهم، طواعية لا إلزاماً.

شارك المقال عبر

تغطية مستمرة

المزيد