بقلم/ علي إبراهيم باخ
بعد استعراض “عضلات” الصين بمعية روسيا وكوريا الشمالية ومن يدور في فلكهم، بدا الأمر شبه واضح: الديمقراطية والقيم التي أسست لها المدارس الفكرية المختلفة باتت أمام هجوم استراتيجي متعدد الأبعاد. هذا الهجوم لا يأتي عبر الحرب التقليدية فحسب، بل من خلال إعادة صياغة النظام الدولي على أسس جديدة. فظهور تكتلات مثل بريكس بلس، واتجاه العديد من دول الجنوب العالمي للانضمام إليه، يعكس رغبة مبيتة و مقلقة في التخلص من هيمنة الغرب الاقتصادية والسياسية، والبحث عن بدائل نقدية ومالية (كاليوان الصيني رغم اللامركزية التي فيه امام مركزية الدولار الأمريكي أو العملات الإقليمية المشتركة) تكسر احتكار الدولار.
القوة الاقتصادية العملاقة للصين، مضافاً إليها تفوقها المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، يشكلان اليوم أداة ضغط استراتيجية. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية، بل تحول إلى عنصر حاسم في التجارة، الأمن، الإعلام، وحتى في تشكيل الرأي العام عبر أدوات المراقبة والسيطرة المعلوماتية. هذا ما يجعل الصين تقدم نفسها كنموذج مختلف عن الديمقراطية الغربية، نموذج يزاوج بين النمو الاقتصادي السريع والتحكم السياسي المركزي الذي نعاني منه في هذه الأوطان، وهو ما يغري كثيراً من الأنظمة في العالم العربي والإفريقي.
أما الولايات المتحدة، فهي تبدو اليوم عالقة بين الدفاع عن قيمها التقليدية وبين الانقسامات الداخلية الحادة. إدارة ترمب وفريقه تعلن الدفاع عن “القيم الأمريكية” او بالأحرى عن التجارة و التفوق الاقتصادي الأمريكي لكنها في الجوهر تستخدم هذه القيم كأداة تفاوض أو ضغط لتحقيق أهداف سلطوية داخلية. المفارقة أن الهجوم على الديمقراطية لم يعد يأتي فقط من الخارج، بل بات يتجلى داخل البيت الأمريكي نفسه عبر التشكيك في الانتخابات، واتهام المؤسسات العريقة بالتحيز، وهو ما يضعف صورة واشنطن كمركز عالمي للديمقراطية.
الأوروبيون، رغم أنهم أصحاب المدرسة الفكرية الأكثر رسوخاً في مجال التنظير الديمقراطي (من الثورة الفرنسية إلى الفكر الليبرالي الحديث)، إلا أنهم بدؤوا بدورهم في التراجع. انشغالهم بالحرب في أوكرانيا، الخوف من فقدان مصادر الطاقة الروسية، والقلق من موجات الهجرة، جعلهم يحيدون عن أولوياتهم التاريخية في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، ويركزون بدلاً من ذلك على سياسات أمنية وبراغماتية آنية.
في هذا السياق، نجد أن ما تنبأ به فوكوياما في “نهاية التاريخ” لم يتحقق؛ بل على العكس، نحن أمام صعود نموذج جديد ينافس الديمقراطية الليبرالية ويضعها في مأزق وجودي. كما أن رؤية هنتنغتون في “صدام الحضارات” تكتسب زخماً جديداً، حيث نشهد اليوم تصاعداً في الاستقطاب بين “المعسكر الغربي” و”المعسكر الشرقي”، مع دخول الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية كساحات تنافس مفتوحة.
إن الديمقراطية اليوم أمام امتحان عسير، تبعاته تتجلى في كل بقاع العالم، خصوصاً في المناطق الهشة مثل الشرق الأوسط. هنا تتحول المنطقة إلى مختبر مفتوح للتحولات الكبرى: صراع بين نفوذ القوى التقليدية (أمريكا وأوروبا) والقوى الصاعدة (الصين وروسيا)، يقابله ضعف داخلي بنيوي يجعل هذه الدول أكثر عرضة للتأثر بالموجات العالمية.
وباختصار، نحن أمام مشهد عالمي جديد تتراجع فيه الديمقراطية إلى موقع الدفاع، بينما تصعد القوة الاقتصادية والتكنولوجية لتصبح هي المعيار الجديد للتحالفات وبناء النفوذ. هذا التحول قد يقود في السنوات القادمة إلى ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث لم تعد الديمقراطية “القدر الحتمي” للبشرية، بل خياراً بين خيارات متعددة