مجلس النواب الأميركي يلغي تفويضات الحرب في العراق: فرصة لترسيخ النظام السياسي
ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
مرّر اليوم الخميس 11/9/2025 مجلس النواب الأميركي باغلبية أعضاءه تعديلاً على قانون الدفاع الوطني. لكن هذا التعديل لم يكن تفصيلاً إجرائياً، بل خطوة تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية عميقة: وهو إلغاء تفويضَي الحرب على العراق، الصادرين عام 1991 لتحرير الكويت وعام 2002 لغزو بغداد وإسقاط نظام صدام.
بهذا القرار، يسحب البرلمان الأميركي من يد الرئيس أداة قانونية استُخدمت لعقود لتبرير تدخلات عسكرية واسعة، ليس في العراق وحده بل أحياناً في المنطقة كلها. ومن خلاله، يعلن المشرّعون الأميركيون أن زمن “الحرب على العراق” قد انتهى قانونياً، وأن واشنطن لم تعد تحتفظ بترخيص مفتوح لضرب هذا البلد متى شاءت.
في بغداد، قد يمر الخبر سريعاً في نشرات الأخبار، لكنه في جوهره يمثل تحوّلاً مهماً في معادلة العلاقة بين العراق وأميركا. فمنذ عام 2003 وحتى اليــوم، ظلّ شـبح (التدخل الأميركي) حاضراً في كل أزمة سياسية داخلية، وأحياناً ورقة جاهزة بيد خصوم الحكومة أو المتضررين من النظام السياسي الجديد. كان دائماً هناك من يروّج لفكرة أن واشنطن تملك بقرار بسيط أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أن تسقط النظام، أو تفرض ترتيبات جديدة من خارج الحدود.
إلغاء التفويض يضرب هذه الفرضية من أساسها. لم يعد للرئيس الأميركي، على الأقل من خلال هذه القوانين، أن يستخدم القوة لإعادة رسم المشهد العراقي كما حدث في 1991 أو 2003. هذا وحده يكفي لحرمان المراهنين على سقوط النظام على يد أميركا من ورقة طالما لوّحوا بها. وهو في الوقت نفسه يمنح الحكومة العراقية فرصة لتأكيد أن الصراع الداخلي يجب أن يُحسم داخل المؤسسات الوطنية، لا على وقع قرار عسكري صادر من البيت الأبيض.
رمزية القرار كبيرة. فهو يقدّم للعراق رسالة واضحة، لم يعد بلدكم ساحة حرب معلنة في القانون الأميركي. هذه الرسالة يمكن أن توظفها بغداد لتعزيز شرعيتها الخارجية، وإقناع الداخل بأن زمن “التبعية العسكرية” قد تراجع، وأن العلاقة مع واشنطن يمكن أن تتحول إلى شراكة أمنية واقتصادية وسياسية أكثر وضوحاً وندية.
لكن الفرصة التي يفتحها هذا القرار تحتاج إلى إدارة ذكية. فمن جهة، الإلغاء لا يعني أن الولايات المتحدة تخلّت عن قدرتها على التدخل. ما زالت لديها أدوات قانونية أخرى، مثل تفويض 2001 الخاص بمحاربة الإرهاب، وصلاحيات الرئيس الدستورية لشن عمليات محدودة. ومن جهة أخرى، قد يحاول خصوم الدولة العراقية استبدال خطاب التدخل الأميركي بخطابات أخرى: مرة بالحديث عن مؤامرة إقليمية، ومرة بالتلويح بعودة داعش.
لذلك، القيمة الحقيقية لهذا التطور تكمن في كيفية استثماره. على البرلمان العراقي أن يخرج ببيان يلتقط اللحظة ويقدّمها للرأي العام كدليل على أن العراق استعاد سيادته من أحد أكبر رموز المرحلة السابقة. وعلى الحكومة أن تحوّل هذه الرمزية إلى خطوات عملية ملموسة، تبدأ بصياغة اتفاقية أمنية علنية وواضحة مع الولايات المتحدة، بما يضع أسساً جديدة للتعاون بعيداً عن التفويضات القديمة.
كما ينبغي تعزيز قدرات الدولة الأمنية بشكل مستقل، لتقليل الاعتماد المفرط على التحالف الدولي. واللافت أن انسحاب القوات الامريكية والتحالف الدولي من قاعدة عين الأسد وقاعدة فكتوريا يمثل مؤشراً إيجابياً على أن العراق يسير نحو استعادة سيادته الوطنية بشكل تدريجي، وهو ما يفتح الباب أمام دبلوماسية أكثر فاعلية لإعادة تموضع العراق في قلب التوازنات الإقليمية..
لقد حاول كثيرون طوال عقدين اللعب على وتر (أميركا ستعود لتسقط النظام). لكن قرار الكونغرس الأخير يثبت أن هذه المراهنة أصبحت أوهاماً بلا سند قانوني. وما لم يُدركه العراقيون أن مصيرهم بات في أيديهم، وأن استقرار نظامهم السياسي لن يأتي إلا من قدرتهم على إدارة خلافاتهم بوسائل داخلية، فإنهم سيظلون أسرى روايات قديمة انتهى وقتها.
الكونغرس الأميركي أنهى رسمياً حقبة التفويضات التي شرّعت للحرب على العراق. ويبقى السؤال: هل ينجح العراق في تحويل هذا الإلغاء من مجرد خطوة قانونية في واشنطن إلى نقطة انطلاق جديدة نحو استقرار سياسي طال انتظاره؟