آخر الأخبار

نتائج سياسة ترامب: بدلا من “استعادة عظمة أميركا” انحسار دورها القيادي وتنامي عزلتها

رأي و موقف

هشام القروي

أدى الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على قطر في 9 سبتمبر 2025 – الذي استهدف قادة حماس في قلب الدوحة بضربة دقيقة، بينما تجاهلت القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة العُديد الجوية الضخمة القريبة وجود التهديد- إلى بلورة تحول جوهري في ديناميكيات القوة العالمية.

كشفت الضربة الإسرائيلية الطبيعة الجوفاء للضمانات الأمنية الأميركية بأكثر الطرق دراماتيكية. إن عدم إيفاء الولايات المتحدة بتعهداتها تجاه أمن قطر يشير إلى حقيقة لا يمكن إغفالها، وإن ظل الخليج العربي يتجاهلها: وهي أن واشنطن تضع أمن إسرائيل، مصالحها فوق أمن العرب والمسلمين جميعا. أولا وأخيرا. فهي تضحي بأيّ دولة عربية أو إسلامية “حليفة”، إذا اقتضت ذلك مصلحة إسرائيل.

وعلى الرغم من وجود آلاف الجنود الأميركيين في قاعدة العُديد – أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط والمقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية – فإن الولايات المتحدة لم تحرك ساكنا.

يمثل هذا الحادث ذروة اتجاهات أوسع نطاقاً تقوض شبكة تحالفات الولايات المتحدة. فقد أضرّت ولاية دونالد ترامب الثانية بشكل منهجي بالعلاقات مع الشركاء التقليديين في مناطق متعددة، حتى غدا بالإمكان اليوم الحديث عن فراغ يتزايد باطراد من حول واشنطن. وهناك عدة نقاط تستحق التوقف عندها في هذا السياق:

1- العلاقات المتأزمة مع أوروبا: اتسم نهج إدارة ترامب تجاه أوروبا بالعداء الصريح الذي تميز بالحروب التجارية والمواجهات الأيديولوجية. وصف ترامب الاتحاد الأوروبي بأنه كيان ”أنشئ لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة،” وقام بدعم الحركات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء القارة، ما أدى إلى توترات غير مسبوقة مع الحلفاء الأوروبيين.

في قمة الناتو التي عقدت في لاهاي في يونيو 2025، اضطر القادة الأوروبيون إلى الالتزام بهدف إنفاق دفاعي بنسبة 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو زيادة كبيرة تعكس الضغط الأميركي والمخاوف الأوروبية بشأن موثوقية الولايات المتحدة. وصلت العلاقات عبر الأطلسي إلى ما يصفه المحللون بـ”نقطة الانهيار“. ويتساءل المسؤولون الأوروبيون سراً عما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بالقيم الديمقراطية، لاسيما أن ترامب احتضن القادة الاستبداديين بينما انتقد المؤسسات الديمقراطية الأوروبية.

2- التحدي الهندي: ولعل الأهم من ذلك أن سياسات ترامب دفعت الهند، التي تُعتبر تقليديًا شريكًا إستراتيجيا رئيسيًا في احتواء الصين، إلى التقرب من بكين وموسكو. وقد أدى فرض تعريفات جمركية بنسبة 50 في المئة على المنتجات الهندية بسبب استمرار نيودلهي في شراء النفط الروسي إلى نتائج عكسية بشكل مذهل.

اعتبر عناق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون الأخيرة على نطاق واسع عملاً متعمداً لتحدي واشنطن.

واعترف ترامب نفسه بهذا الفشل الإستراتيجي، حيث نشر على وسائل التواصل الاجتماعي: ”يبدو أننا فقدنا الهند وروسيا لصالح الصين.” ورغم أن ترامب تراجع لاحقاً عن هذه التصريحات بشأن الهند، يبدو أن الضرر الذي لحق بالعلاقات الثنائية كبير.

3- إعادة ترتيب أوراق الخليج: أدى الهجوم الإسرائيلي على قطر إلى تسريع إعادة ترتيب أوراق السياسة الخليجية على نطاق أوسع. القادة الإقليميون الذين استثمروا بكثافة في شراكات مع الولايات المتحدة خلال ولاية ترامب الأولى، وتعهدوا بصفقات بقيمة 3 تريليونات دولار خلال جولته الخليجية عام 2025، يشككون الآن في قيمة الضمانات الأمنية الأميركية.

وكما أشار البعض ”من المرجح أن تفكر تلك الدول في كيفية ردع أي هجمات مستقبلية، فضلاً عن النظر في نوع الإطار الأمني الذي تحتاج إلى الاستثمار فيه، بدلاً من الاعتماد على شريك فشل في حمايتها، حتى من حلفائه.”

4- صعود مراكز القوة البديلة: بينما تتراجع الولايات المتحدة عن دورها القيادي العالمي، اكتسبت كتلتان بديلتان زخماً وعضوية، ما يشكل تحدياً مباشراً للنظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب.

أظهرت قمة منظمة شنغهاي للتعاون لعام 2025 في تيانجين الجاذبية المتزايدة للتعددية التي تقودها الصين وروسيا. تمثل المنظمة، التي تضم الآن عشرة أعضاء كاملين، بما في ذلك إيران وبيلاروسيا اللتين انضمتا مؤخرًا، 42 في المئة من سكان العالم و36 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقيسًا بتكافؤ القوة الشرائية.

دعا إعلان تيانجين الصادر عن القمة صراحةً إلى ”إطار حوكمة دولي أكثر عدلاً وتوازناً“ رداً على ما وصفه الأعضاء بالفوضى العالمية التي تقودها الولايات المتحدة.

تطورت منظمة شنغهاي للتعاون من ترتيب أمني إقليمي إلى منصة شاملة للتنسيق السياسي والاقتصادي والإستراتيجي، ووضعت نفسها صراحةً كبديل للمؤسسات الغربية.

في نفس الوقت، اكتسبت مجموعة بريكس الموسعة وزنًا اقتصاديًا وديموغرافيًا أكبر، حيث تمثل الآن 34.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من حيث تعادل القوة الشرائية، مقارنة بـ29 في المئة لمجموعة جي 7. وقد عزز توسع الكتلة ليشمل دولًا مثل مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة قدرتها على التأثير في أسواق الطاقة العالمية وتطوير البنية التحتية.

تسعى دول مجموعة بريكس+ بنشاط إلى إيجاد آليات لتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في التجارة الدولية، مع تزايد الترابط بين الدول الأعضاء مدفوعًا بتكثيف التعاون متعدد الأطراف. ويمثل تركيز المجموعة على المعاملات بالعملة المحلية والمؤسسات المالية البديلة تحديًا مباشرًا للنظام النقدي الدولي القائم على الدولار الذي دعّم نفوذ الولايات المتحدة العالمي.

5- الآثار المترتبة على الحوكمة العالمية: يمثل نهج ترامب في العلاقات الدولية ما أطلق عليه المحللون اسم ”الثورة الأميركية الثانية“، وهو رفض شامل للمؤسسات متعددة الأطراف وأطر التعاون التي أنشأتها أميركا نفسها بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أدى هذا التخلي عن القيادة، الذي يشبه ثورة في السياسة الخارجية الأميركية، إلى خلق فراغ تتوق مراكز القوة البديلة إلى ملئه.

تمتد العواقب إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية. فقد قام ترامب بشكل منهجي بتفكيك المساعدات الإنمائية الأميركية، وإلغاء برامج تعزيز الديمقراطية، والانسحاب من الاتفاقيات الدولية. وأدى تبني إدارته لعقلية ”السيادة المفرطة“، وهو مصطلح يستخدم لوصف شكل متطرف من أشكال السيادة الوطنية التي ترفض التعاون الدولي، إلى معارضة آليات التعاون الدولي الأساسية، بما في ذلك مقاومة ذكر أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في الوثائق الدولية.

وقد شجع هذا التراجع القادة الاستبداديين في جميع أنحاء العالم، ما ترك الشركاء الديمقراطيين يكافحون للحفاظ على التعاون الدولي في غياب القيادة الأميركية. والنتيجة هي نظام دولي متزايد التفتت، حيث تحدد القوى الإقليمية مثل الصين وروسيا وشركاؤهما في منظمة شنغهاي للتعاون وبربكس+ قواعد جديدة للمشاركة.

تترتب على عزلة الولايات المتحدة المتزايدة تكاليف إستراتيجية باهظة. فقد ترافق فقدان النفوذ على الحلفاء مع عجز مقابل عن تشكيل الأحداث العالمية. ويُظهر الهجوم الإسرائيلي على قطر أن حتى الشركاء المقربين لم يعودوا يشعرون بأنهم مقيدون بتفضيلات الولايات المتحدة عندما تتباين مصالحهم المتصورة.

وعلى العموم، يشكل ظهور أطر مؤسسية بديلة تحديًا جوهريًا للنفوذ الأميركي العالمي. فعندما يتم تنظيم ما يقرب من نصف سكان العالم وثلث الناتج الاقتصادي العالمي من خلال مؤسسات ترفض صراحة القيادة الأميركية، تفقد الأدوات التقليدية للسياسة الأميركية الكثير من فاعليتها.

وهكذا تظهر المفارقة صارخة: في سعيه إلى تحقيق أجندة ”أميركا أولاً“ و”استعادة عظمة أميركا”، انتهى ترامب بدلاً من ذلك إلى تسريع انحدار الولايات المتحدة من خلال إبعاد الشركاء وتمكين المنافسين الذين سيضعون واشنطن في “حجمها الجديد”.

شارك المقال عبر

تغطية مستمرة

المزيد