كانت لحظاتٍ عابرة في شتاءٍ بغداديّ ساكن، وعلى رصيفٍ دافئ من شوارع العام 1969، مرّت لحظةٌ خُلدت في ذاكرتي كقصيدة عابرة… حين فوجئت بمشهدٍ لا يُنسى، ولا تمحوه السنون.
رأيته يمشي… رجلٌ يشبه القصيدة، بهيّ الطلعة، تسبقه الهيبة وتتبعه اللغة، يبتسم كمن يكتب بيتًا سعيدًا في مدينة تحفظه عن ظهر قلب.
كان نزار قباني، الشاعر الذي أحبّ بغداد، وبغداد أحبّته ،شاعرًا يُسعد القلب قبل العقل، ويمشي على رصيفها كأنه يعرف حجارتها بالاسم.
عبر الشارع بهدوء، من الرصيف الأيمن إلى الأيسر، يتأمل معالم بغداد، ويشرب من ملامحها، كأنه يحفظها بعينيه.
قلت في سرّي:
إنه ملك الشعر الحر…
إنه في بلدٍ يتذوّق الشعر والعاطفة معًا، نهارًا جهارًا.
ابتسمتُ له ابتسامةً صامتة.
كان أنيقًا، ملبسه أوروبيّ زاهٍ، وقد استبدل ربطة العنق بـ”فيونكة”، يتحاور مع صاحبه بفرحٍ غامر، ممشوق القامة، دمشقيّ الملامح، عربيّ الهوى، بغداديّ الحبّ…
عدتُ إلى نفسي أتأمّل فرح ذلك الرجل، الشاعر الدبلوماسي الذي جاء من الشام عاشقًا لبغداد.
ولم تمضِ إلا أيامٌ قليلة، حتى ضجّ الإعلام والناس بخبر اقترانه بسيدة بغدادية من بنات الكرام، من أهل الحي المجاور لنا.
كانت تليق به نسبًا وحسبًا…
إنها بلقيس، ملكة سبأ، بنت بغداد، وسيدة من العراق.
مرّت السنوات، وعدّها نزار أعظم حبّ في حياته.
لكن في ذلك اليوم الملطخ برماد كانون الأول 1981، انفجرت بيروت…
وانهارت معها بلقيس، وردة الدفء في شتاء نزار، وعمود الخيمة في وطن قلبه.
منذ رحيلها، لم يعد الشعر قصيدة… بل صار مأتمًا،
وصار الحبر نحيبًا،
وصارت الكلمات جنازات تمشي على سطورٍ باكية.
عاش بعدها نزار بقلبٍ منطفئ، يكتب لامرأة تسكن بين الضلوع، وتغيب عن العيون…
يكتب على إيقاع قصيدة لم تكتمل.
لم يكن أمام نزار بعد ذلك إلا الحزن… حتى الموت.
فقال يخاطب قلوبنا المكسورة، وقلبه المحطّم:
بلقيسُ… كانتْ أجملَ الملكاتِ في تاريخِ بابلْ
بلقيسُ… كانت أطولَ النخلاتِ في أرض العراقْ…
بلقيسُ يا وجعي
ويا وجعَ القصيدةِ حينَ تلمسها الأناملْ
هل يا تُرى… من بعد شعركِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ؟
بلقيسُ… لا تتغيبي عنّي
فإنّ الشمسَ بعدكِ لا تُضيء على السواحلْ…
حتى العيون الخُضر، يا بلقيسُ، يقتلونها؟
حتى الحكايات الجميلة تُقتل؟
حتى الأغاني تُغتال؟
وحتى الطيبة… والنخلة… والطفولة… تُذبح؟
يا بلقيس… إن هم فجّروكِ، فعندنا
كلُّ الجنائزِ تبتدئ في كربلاءْ
وتنتهي في كربلاءْ…
أدمعت هذه المرثية عيون العاطفة في أرجاء الأرض،
وظلّت المأساة لا تنقطع، والدموع لا تغادر الجفون، والقلوب تقلب الأوجاع…
وسنواتٌ تتسارع لتطوي صفحات الماضي… لكنها لا تنسى…
قبل أيام من صيفنا هذا ، وقفتُ عند مدخل ذلك الشارع التاريخي، الذي سار نزار قباني على أرصفته ليلة عرسه.
تأملتُ الأرض التي كنتُ واقفًا عليها حين تقاطعتُ معه صدفة، مستعيدًا طريقي الأسبوعي آنذاك لمشاهدة فيلم في إحدى دور السينما القريبة، في نهاية كل أسبوع… قبل أكثر من نصف قرن.
لقد أُعيد تجديد المكان…
الحجارة القديمة أُزيلت، وحلّت محلّها حجارة حديثة، والرصيف بات أنيقًا…
اقتربتُ رويدًا من المسار المقابل لمقهى “حسن عجمي”، وقد تبدّلت بلاطاته القديمة بأخرى أجمل…
لكن الذكرى كانت أعمق من أن يمحوها التغيير.
تذكّرتُ لحظة عبور نزار قباني… بين فرحه بالاقتران ببلقيس، ويوم حزنه بفقدها المروّع.
مضى نصف قرن ونيّف منذ صادفته…
وهي سنواتٌ أسكبت ألف دمعة من بغداد، ممزوجة بالألم والحزن… دون أن نفقد الأمل.
عدتُ إلى ذلك الرصيف، بعد كل هذه السنين، حيث مشى نزار ليلة فرحه، فأبصرته يمشي في الذاكرة لا في الزمان.
المدينة تغيّرت… لكن الوجع بقي.
وحين وقفتُ حيث تقاطعنا ذات يوم، همستُ في داخلي:
ليتني لم أره فرِحاً…
ليت القصيدة لم تبدأ، طالما أن نهايتها ستكون على ركام بلقيس.
فالحب الحقيقي لا يموت…
لكنه يُغتال، لا يُدفن إلا في قلب الشاعر، وتحت أنقاض السياسة.