بغداد – إيجاز
يعيش العراق واحدة من أخطر أزماتها المائية منذ عقود، حيث تتناقص الموارد بوتيرة سريعة، فيما يترقب العراقيون سنوات توصف بأنها “عجاف”، إذا لم تُعالج المشكلات بقرارات جريئة ومشاريع واقعية.
وفي هذا السياق، يطفو ملف السدود الجديدة في إقليم كردستان كأحد أكثر القضايا إثارة للجدل، إذ يرى فيه البعض خطوة استراتيجية قد تساعد في مواجهة الجفاف، فيما يراه آخرون مشروعاً محاطاً بالمخاطر وقد يُستغل لاحقاً كورقة سياسية في صراع المركز والإقليم.
وإلى جانب التحولات المناخية وقلة الأمطار، هناك الضغوط المستمرة من دول الجوار، خصوصاً تركيا وإيران، التي قلصت منسوب الأنهار الداخلة إلى العراق.
وهذا التراجع الحاد أجبر الحكومات المتعاقبة على البحث عن بدائل داخلية لتعزيز الخزن وتنظيم التوزيع، وكان من بينها التوسع في إنشاء السدود، سواء الاتحادية أو الإقليمية.
خلافات داخلية
ومع ذلك، فإن السؤال المحوري ظل مطروحاً: هل تكفي هذه السدود لتغطية النقص البنيوي، أم أنها مجرد حلول مؤقتة تُضاعف من الخلافات الداخلية؟
في كردستان، شُيّدت خلال الأعوام الماضية مجموعة من السدود الصغيرة والمتوسطة، مثل جمركة وخنس وديوانة وتورجار وآقوبان وغيرها، إضافة إلى مشاريع أكبر قيد التخطيط مثل منداوة ودلكة وباكرمان وطق طق.
وبحسب التقديرات الرسمية، فإن هذه السدود صُممت في معظمها لحصاد مياه الأمطار، ولتوفير مخزون محلي يساعد القرى والمدن الشمالية على مواجهة شحّ المياه.
لكن هذه المشاريع انعكست على المحافظات الأخرى، حيث لاحظت نينوى وصلاح الدين وديالى وبغداد، وصولاً إلى الجنوب، انخفاضاً ملحوظاً في الحصص المائية نتيجة حجزها في تلك السدود.
وهذا الواقع دفع أصواتاً برلمانية إلى دق ناقوس الخطر، حيث شدد عضو لجنة الزراعة والموارد المائية النيابية رفيق الصالحي على أن “استمرار الإقليم بإنشاء سدود صغيرة ومتوسطة سيؤدي إلى كارثة مائية للوسط والجنوب”، مطالباً الحكومة الاتحادية ووزارة الموارد المائية بالتدخل السريع لوضع حد لهذه السياسة.
ويؤشر تصريح الصالحي مخاوف حقيقية لدى سكان المحافظات المتضررة، الذين يعتمدون على كل قطرة ماء تصلهم عبر دجلة والفرات، سواء للشرب أو الزراعة أو الصناعة.
لا حاجة لها
ولم يتقصر الجدل على السياسيين وحدهم، بل امتد إلى منظمات المجتمع المدني والخبراء البيئيين، إذ اعتبر فعضو مرصد العراق الأخضر عمر عبد اللطيف أن البلاد “لا حاجة لها بهذه السدود في الوقت الحالي إطلاقاً”، محذراً من أن تتحول إلى أداة ابتزاز سياسي في حال تصاعد الخلافات بين أربيل وبغداد.
وأوضح أن السدود القائمة أصلاً “تكفي لتخزين نحو 100 مليار متر مكعب من المياه”، وهي كمية كافية لتغطية مواسم عديدة لو أُديرت بشكل صحيح، لكن الإشكالية – وفق رأيه – تكمن في سوء الإدارة وغياب التنسيق الوطني الشامل، لا في نقص البنى التحتية وحدها.
ومن الناحية التقنية، يشير خبراء الموارد المائية إلى أن السدود ليست كلها على درجة واحدة من الفاعلية.
فالسدود الكبيرة مثل دوكان ودربنديخان تعاني أصلاً من انخفاض مخزونها إلى مستويات خطيرة، إذ لا يتجاوز الخزين الحالي فيهما نصف الطاقة الكلية، أما السدود الصغيرة، فهي غالباً مخصّصة لجمع مياه الأمطار الموسمية ولا تسهم فعلياً في حل أزمة الإطلاقات المائية من تركيا وإيران.
وهذا يعني أن الاعتماد على هذه المشاريع وحدها لن يعالج أصل الأزمة، بل قد يفاقمها إذا لم تُرفق باستراتيجية وطنية لتقليل الهدر وتحسين شبكات الري ومعالجة التلوث.
ويبدو البعد السياسي للملف أكثر خطورة وسط تحذيرات المختصين من أن تتحول السدود إلى ورقة مساومة في أوقات الأزمات بين المركز والإقليم، خصوصاً مع سوابق الخلافات حول النفط والميزانية.
ورقة ضغط
وإذا امتلكت حكومة الإقليم القدرة على التحكم بكميات المياه المحجوزة في خزاناتها، فإن ذلك يمنحها ورقة ضغط إضافية في مواجهة بغداد، وهذه المخاوف ليست جديدة، لكنها تكتسب زخماً في ظل الظروف الحالية، حيث يواجه العراق ضغوطاً خارجية خانقة ولا يحتمل إضافة جبهة داخلية جديدة.
في المقابل، يدافع مؤيدو بناء السدود عن جدواها، مؤكدين أنها ضرورية لمواجهة آثار التغير المناخي، وتُسهم في تشجيع تساقط الأمطار عبر تبخر المياه المخزونة، فضلاً عن دورها في تأمين احتياجات محلية عاجلة للزراعة والشرب.
ويرى هؤلاء أن تقليص المشاريع بدعوى الخوف من توظيفها سياسياً ليس حلاً، بل المطلوب هو إدارة مشتركة ومراقبة اتحادية صارمة تضمن عدالة التوزيع، لكن خصوم هذا الطرح يعتبرون أن التجربة أثبتت عكس ذلك، وأن استمرار المشاريع دون إطار اتحادي واضح سيؤدي إلى تفاقم الأزمات.
وأكثر ما يقلق العراقيين اليوم هو المستقبل.. فالتقارير الدولية تتوقع انخفاضاً إضافياً في موارد دجلة والفرات خلال العقد المقبل، فيما تُظهر بيانات محلية أن مناسيب المياه في بعض السدود وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في الانخفاض.
ومع اتساع رقعة الأراضي الزراعية المتصحرة، وتراجع الإنتاج المحلي من القمح والشعير، فإن الأزمة مرشحة لأن تمس الأمن الغذائي مباشرة، وهو ما يضاعف من خطورة أي خلاف حول توزيع المياه بين الشمال والجنوب.