آخر الأخبار

سوق السندات العراقية.. رهانات المصارف ومخاوف المواطنين

إيجاز – خاص

يشهد العراق في السنوات الأخيرة عودة ملحوظة إلى استخدام السندات كأداة تمويلية، بعدما وجدت الحكومة أن الاعتماد على عائدات النفط وحدها لم يعد كافيًا لتغطية النفقات المتنامية والعجز المزمن في الموازنة.

ومع ذلك، فإن تجربة السندات العراقية تكشف عن مزيج من الترتيبات المعقدة والتحديات المالية، فضلاً عن المخاطر الكامنة في تقلبات أسعار الفائدة وارتباط الاقتصاد المحلي بالمتغيرات العالمية.

سندات إنجاز

ففي مطلع عام 2025 أطلقت وزارة المالية بالتعاون مع البنك المركزي برنامجًا جديدًا تحت مسمى “سندات إنجاز”، أريد له أن يكون بوابة لتوسيع قاعدة التمويل الداخلي، عبر استقطاب مدخرات المواطنين والبنوك معاً.

وحمل الإصدار الأول فئتين: الأولى بقيمة 500 ألف دينار بفائدة سنوية 6.5% تُدفع كل ستة أشهر، على أن يستحق السند بعد عامين؛ أما الثانية فقيمتها مليون دينار وبفائدة 8.5% تُصرف نصف سنويًا ولمدة أربع سنوات.

لكن النتائج لم تكن بمستوى الطموح، إذ لم يغطّ الاكتتاب سوى ربع المبلغ المستهدف، ما دفع الحكومة لاحقًا إلى تعديل خطتها وإصدار سندات جديدة موجهة للبنوك حصراً، وبفائدة أكثر جاذبية وصلت إلى 10% على بعض الفئات، محاولة بذلك استغلال فائض السيولة لدى المصارف المحلية وتحويلها إلى أداة لتمويل العجز.

ولم يقتصر العراق على السندات المحلية، إذ سبق أن لجأ إلى الأسواق الدولية، حين أصدر سندات دولارية بمليار دولار وبعائد ثابت بلغ 6.75% تستحق في 2023، وهو ما وضع البلاد آنذاك في دائرة اهتمام المستثمرين الأجانب، لكن بمرتبة ائتمانية متواضعة نسبياً انعكست على حجم المخاطر وتكلفة الاقتراض.

سلاح ذو حدين

ويُنظر إلى هذه التجربة باعتبارها سلاحًا ذا حدين، فمن جهة وفرت سيولة عاجلة لدعم الموازنة، لكنها في الوقت نفسه كبّدت المالية العامة أعباءً إضافية بفوائد مرتفعة، قياسًا بقدرة العراق على السداد وبنيته الاقتصادية الهشة.

وخضعت ترتيبات إصدار السندات العراقية لإطار تنظيمي محدد يشرف عليه البنك المركزي وهيئة الأوراق المالية، فكل سند يتم تسجيله برمز فريد في مركز الإيداع، مع بيانات تفصيلية تشمل نوع الإصدار، تاريخ الاستحقاق، العملة، والجهة الحائزة.

وهذا التنظيم أتاح تداوله في سوق العراق للأوراق المالية عبر شركات وساطة مرخصة، بما يمنح السندات طابعًا أكثر شفافية وقابلية للتسييل، وهو ما يشجع بعض المستثمرين على التعامل معها كخيار بديل عن الودائع البنكية أو حتى الأسهم، خصوصًا في بيئة اقتصادية يغلب عليها طابع الحذر وعدم اليقين.

غير أن العائدات الموعودة من السندات ليست وحدها العامل الحاسم في نجاح هذه الأداة، بل يرتبط الأمر ارتباطًا وثيقًا بالسياسات النقدية وأسعار الفائدة.

ففي منتصف 2023 رفع البنك المركزي العراقي سعر الفائدة الأساسي إلى 7.5% للسيطرة على التضخم وضبط سوق الصرف، قبل أن يعيد خفضها تدريجيًا لتستقر عند 5.5% مع بداية 2025.

ضربة للقروض

وهذه التحركات تركت أثرًا مباشرًا على جاذبية السندات، إذ أن رفع الفائدة يجعل الحكومة مضطرة لتقديم عوائد أعلى لجذب المستثمرين، ما يزيد كلفة خدمة الدين العام، بينما يفتح في الوقت نفسه شهية المصارف على الاستثمار في السندات بدلاً من ضخ القروض في الاقتصاد الحقيقي.

أما انخفاض الفائدة فيخفف عبء الدين على الموازنة، لكنه قد يقلل من جاذبية الإصدارات الجديدة للمستثمرين الذين يبحثون عن عائد أكبر.

وفي هذا السياق، يرى محللون أن زيادة أسعار الفائدة تمثل سيفًا ذا حدين، فمن جهة توفر للمواطن العادي فرصة استثمار مدخراته بعوائد ثابتة ومضمونة عبر السندات، لكنها من جهة أخرى تثقل كاهل المالية العامة وتدفع الحكومة إلى تخصيص جزء أكبر من الإيرادات النفطية والفوائض لتمويل خدمة الدين بدلاً من التوجه إلى الإنفاق الاستثماري.

 أما في حال استمرار الاتجاه النزولي للفائدة، فقد تضطر الحكومة إلى ابتكار أدوات إضافية أو حوافز ضريبية وتشجيعية للحفاظ على جاذبية السندات.

أبرز نقاط الضعف

ورغم هذه المعضلات، ينظر خبراء الاقتصاد إلى السندات بوصفها أداة ضرورية لإدارة العجز وإشراك السوق المحلي في تمويل الدولة، غير أن نقاط الضعف ما زالت واضحة، منها ضعف المشاركة الشعبية بسبب تدني الثقافة الاستثمارية، وانحسار الثقة بالقطاع المصرفي، إضافة إلى التصنيف الائتماني المتواضع الذي يبقي العراق ضمن فئة المخاطر المتوسطة ويجعل كلفة الاقتراض أعلى مما هي عليه في دول ذات استقرار مالي أكبر.

 كما أن البيئة السياسية غير المستقرة تضيف طبقة أخرى من الشكوك، إذ يخشى المستثمر من أن تؤدي الأزمات الحكومية أو تبدل السياسات إلى الإخلال ببرامج السداد أو التأثير على انتظام الفوائد.

ومع ذلك، يعتقد مختصون أن تطوير سوق السندات العراقية يظل رهاناً استراتيجياً، إذ يتيح تنويع مصادر التمويل بعيدًا عن النفط، ويفتح الباب أمام بناء سوق مالية أكثر نضجًا.

وتشمل التوصيات المطروحة في هذا الشأن تنويع آجال الاستحقاق لتناسب شرائح مختلفة من المستثمرين، وتحسين الشفافية من خلال نشر بيانات دورية عن حجم الإصدارات وأداء السوق، فضلاً عن تعزيز التعاون مع المؤسسات الدولية لتحسين التصنيف الائتماني وتخفيض كلفة الاقتراض.

وفي حال مضت الحكومة بهذه المسارات بجدية، فإن السندات قد تتحول من مجرد أداة مؤقتة لسد العجز إلى ركيزة أساسية في سياسة التمويل الوطني.

شارك المقال عبر

تغطية مستمرة

المزيد