بغداد – إيجاز
يشهد العراق موجة نزوح جديدة، لا ترتبط بالحروب أو العمليات العسكرية كما حدث خلال اجتياح تنظيم داعش لبعض المدن، وإنما بسبب تفاقم أزمة الجفاف وشح المياه، في ظل تغيّرات مناخية متسارعة، وتراجع ملحوظ في الحصص المائية الواردة من دول الجوار.
ويصف مختصون بيئيون خطر الجفاف بأنه التحدي الأكبر المقبل للعراق بعد أن تجاوز خطر الإرهاب، محذرين من تداعياته على الأمن والاستقرار والاقتصاد الوطني، خصوصاً مع استمرار التغيرات المناخية وانخفاض معدلات الأمطار داخل البلاد وخارجها، فضلاً عن تجاوز دول المنبع، تركيا وإيران، على حصص العراق المائية كونه دولة مصب، ما جعله المتضرر الأكبر.
ويرى خبراء أن سوء إدارة الملف المائي داخلياً خلال العقدين الماضيين ساهم في تعميق الأزمة، إذ لم تتخذ الحكومات المتعاقبة إجراءات جادة لمواجهة هذه التحديات، على عكس ما فعلته دول أخرى في المنطقة.
وخلال العامين الأخيرين، سُجلت حالات نزوح متتالية في المحافظات الجنوبية نتيجة التصحر وفقدان الأراضي الزراعية. ففي محافظة النجف، استقبلت دوائر الهجرة أكثر من 700 عائلة نازحة منذ 2023 معظمها قادمة من الديوانية، بعدما فقدت مصادر رزقها بسبب الجفاف.
أما في ذي قار، فقد شهدت الأهوار موجة نزوح غير مسبوقة أجبرت أكثر من عشرة آلاف عائلة على ترك قراها والتوجه نحو مراكز المدن أو المناطق القريبة من الأنهار. وأكدت السلطات المحلية أن أكثر من 14 ألف رأس جاموس نفقت نتيجة شح المياه، الأمر الذي فاقم من خسائر السكان الاقتصادية وألقى بظلاله على الأمن الغذائي والاجتماعي. كما اضطر الصيادون إلى ترك مهنتهم التقليدية، واتجه كثير منهم إلى أعمال هامشية في المدن بعد أن جفّت موارد رزقهم الطبيعية.
وفي ميسان، جفّت نحو 20 نهراً فرعياً في ناحية المشرح شرق المحافظة، في مؤشر خطر لاتساع رقعة الجفاف، حيث أرجعت مصادر محلية السبب إلى قطع الإطلاقات المائية من الجانب الإيراني، وسط انتقادات لغياب تحرك حكومي فعّال للضغط في هذا الملف.
وتشير بيانات بيئية إلى أن العراق فقد أكثر من 50% من موارده المائية منذ عام 2003، نتيجة الانخفاض الحاد في تدفقات نهري دجلة والفرات، والتوسع في بناء السدود الإقليمية، مع غياب اتفاقيات مائية ملزمة مع دول الجوار.
كما حذرت جهات برلمانية من دخول البلاد في أكبر موجة جفاف منذ قرن، إذ تراجع الخزين المائي إلى مستويات حرجة تقل عن 7 مليارات متر مكعب، مقارنةً بـ50 ملياراً في سنوات سابقة. وأكد نواب أن ما يجري يهدد قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية، وينذر بمزيد من التظاهرات والاضطرابات الاجتماعية.
وبحسب مختصين، فإن أزمة المياه انعكست مباشرة على تقلص المساحات الزراعية، حيث فقدت مساحات واسعة قدرت بنصف الأراضي الصالحة للزراعة خلال السنوات الأخيرة. وتزايدت أعداد النازحين من المناطق الجنوبية نحو مدن أخرى أكثر استقراراً مائياً، مع توقعات بحدوث موجات نزوح واسعة إذا استمرت الأزمة دون حلول عاجلة.
وتشير تقديرات بيئية إلى أن العراق قد يواجه خلال العقدين المقبلين كارثة مائية تصل إلى حد انعدام مياه الشرب في بعض المدن، خصوصاً الجنوبية، إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة. وتتحدث تقارير عن أن 15% فقط من الأراضي العراقية ستصلها المياه بحلول عام 2040، ما ينذر بخطر كبير على مستقبل الأمن المائي والغذائي للبلاد.
ويحمّل خبراء إدارة الملف المائي جزءاً كبيراً من المسؤولية للأداء الحكومي، لافتين إلى أن العراق كان يتلقى خلال العامين الماضيين معدلات إطلاق مائي جيدة من تركيا تصل إلى ألفي متر مكعب في الثانية، لكن سوء الاستخدام الداخلي وهدر المياه الزراعية أدى إلى تراجع الخزين الاستراتيجي بشكل حاد.
ويؤكد مختصون أن العراق بحاجة عاجلة لسياسات ترشيد وتقنين استهلاك المياه، واعتماد أساليب حديثة في الري، مع العمل على مشاريع تحلية مياه البحر المالحة لتوفير بدائل صالحة للشرب، إضافة إلى ضرورة الضغط على دول المنبع لتقاسم الضرر وضمان وصول حصص عادلة من المياه.
ويحذر مراقبون من أن استمرار الأزمة دون حلول سريعة سيقود إلى هجرات جماعية من الجنوب نحو الشمال، ما سيخلق تحديات جديدة على المستويات الخدمية والاجتماعية والإدارية، ليضع العراق أمام واحدة من أعقد الأزمات التي عرفها منذ عقود.